قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله-:
"قد جاء في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم (8 / 235)
بيان التخفيف المذكور في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه
وسلم-: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يُرفَّه
عنهما ما دام الغصنان رطبين).
فهذا نص على أن التخفيف سببه شفاعته(3) -صلى الله عليه
وسلم- ودعاؤه لهما، وأن رطابة الغصنين إنما هي علامة لمدة
الترفيه عنهما وليست سببا، وبذلك يظهر بدعية ما يصنعه كثير
من الناس في بلادنا الشامية وغيرها من وضع الآس والزهور
على القبور عند زيارتها، الأمر الذي لم يكن عليه رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه من بعده على ما في ذلك من
الإسراف وإضاعة المال . والله المستعان"(4).
فتأمل في قوله –رحمه الله-: "وبذلك يظهر بدعية ما يصنعه كثير من الناس".
فعد ذلك بدعة في الدين، ومخالفة لما شرعه رب العالمين.
وقال –رحمه الله-: " ويؤيد كون وضع الجريد على القبر خاص
به، وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها أمور:
أ- حديث جابر رضي الله عنه الطويل في (صحيح مسلم) (8 /
231 - 236) وفية قال صلى الله عليه وسلم: (إني مررت بقبرين
يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين).
فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته صلى الله
عليه وسلم ودعائه لا بسبب النداوة... ولأن كون النداوة سببا
لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يعرف شرعا ولا عقلا،
ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذابا إنما هو الكفار الذين
يدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجِنان لكثرة ما يزرع فيها من
النباتات والأشجار التي تظل مخضرة صيفا شتاء!
يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن
سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، قالوا: فإذا
ذهبت من العود ويبس انقطع تسبيحه! فإن هذا التعليل مخالف
لعموم قوله تبارك وتعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ
لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(5).
ب- في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في
النداوة، أو بالأحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب، وذلك
قوله: (ثم دعا بعسيب فشقه اثنين) يعني طولا، فإن من المعلوم
أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة، فتكون مدة
التخفيف أقل مما لو لم يشق، فلو كانت هي العلة لأبقاه صلى الله
عليه وسلم بدون شق، ولوضع على كل قبر عسيبا أو نصفه
على الأقل، فإذا لم يفعل دل على أن النداوة ليست هي السبب،
وتعيَّن أنها علامة على مدة التخفيف الذي أذن الله به استجابة
لشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في حديث
جابر، وبذلك يتفق الحديثان في تعيين السبب، وإن احتمل
اختلافهما في الواقعة وتعددها.
فتأمل هذا، فإنما هو شيء انقدح في نفسي، ولم أجد من نص
عليه أو أشار إليه من العلماء، فإن كان صوابا فمن الله تعالى
، وإن كان خطأ فهو مني، وأستغفره من كل ما لا يرضيه.
ج- لو كانت النداوة مقصودة بالذات، لفهم ذلك السلف الصالح
ولعملوا بمقتضاه، ولوضعوا الجريد والآس ونحو ذلك على
القبور عند زيارتها، ولو فعلوا لاشتهر ذلك عنهم، ثم نقله الثقات
إلينا، لأنه من الأمور التي تلفت النظر، وتستدعي الدواعي نقله،
فإذ لم ينقل دل على أنه لم يقع، وأن التقرب به إلى الله بدعة،
فثبت المراد.
وإذا تبين هذا، سَهُل حينئذ فهمُ بطلان ذلك القياس الهزيل الذي
نقله السيوطي في (شرح الصدور) عمن لم يُسَمِّه:
(فإذا خفف عنهما بتسبيح الجريدة فكيف بقراءة المؤمن القرآن؟
قال: وهذا الحديث أصل في غرس الأشجار عند القبور)
قلت: فيقال له: (أَثْبِت العرش ثم انقُش)، (وهل يستقيم الظل
والعود أعوج)؟ ولو كان هذا القياس صحيحا لبادر إليه السلف
لأنهم أحرص على الخير منا.
فدل ما تقدم على أن وضع الجريد على القبر خاصٌّ به صلى الله
عليه وسلم،
وأن السر في تخفيف العذاب عن القبرين لم يكن في نداوة
العسيب بل في شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لهما،
وهذا مما لا يمكن وقوعه مرة أخرى بعد انتقاله صلى الله عليه
وسلم إلى الرفيق الأعلى ولا لغيره من بعده صلى الله عليه وسلم
، لأن الاطلاع على عذاب القبر من خصوصياته عليه الصلاة
والسلام، وهو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الرسول كما جاء
في نص القرآن: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(6)"(7).